الذكرى الـ 61 لاستقلال ماليزيا… تجربة تنموية فريدة من الزراعة إلى الدولة العصرية

كوالالمبور – “أسواق”
في 31 أغسطس في عام 1957 كانت اللحظة التاريخية التي أطلق فيها رئيس الوزراء الأول تنكو عبد الرحمن صرخة الاستقلال “مرديكا” أمام الآلاف من أبناء الشعب المحتشدين وسط العاصمة الماليزية كوالالمبور ليعلن استقلال البلاد من الاحتلال البريطاني ومن جميع حقب الاستعمار التي مرت بها البلاد في تاريخها.
منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تحتفل ماليزيا سنوياً في هذا التاريخ بعيد الاستقلال “مرديكا” التي هي كلمة تعني الاستقلال باللغة الملاوية، حيث تشهد البلاد احتفالات ومسيرات شعبية وعسكرية ضخمة لتظهر للعالم قوة ووحدة البلاد في ذكرى استقلالها ونيل حرية الإرادة لتطوير ماليزيا من بلد زراعي فقير إلى واحدة من أكثر الدول تطوراً في جنوب شرق آسيا والعالم الإسلامي.
تاريخ طويل من الاستعمار
لطالما كان الموقع الاستراتيجي لماليزيا محط أنظار الدول الاستعمارية الكبرى حيث تطل شبه الجزيرة الماليزية على مضيق ملاكا الاستراتيجي غرباً وبحر الصين الجنوبي شرقاً، كما كانت ماليزيا معبراً هاماً لجميع الرحلات التجارية البحرية والبرية القادمة من جنوب وشرق آسيا من وإلى القارة الأوروبية، إضافة للقلق الذي كان يراود الدول الأوروبية من وصول الإسلام إلى منطقة جنوب شرق آسيا.
كل هذه الأسباب جعلت ماليزيا واحدة من الدول التي تناوبت عليها عقود الاستعمار والاحتلال بدءاً بالاستعمار البرتغالي في عام 1511 حين استطاع البرتغاليون السيطرة على مضيق ملاكا غربي البلاد، حيث استمر حكمهم للمنطقة لمدة 130 عاماً فرض فيها البرتغاليون طابعهم الذي لا زال مترسخاً حتى اليوم في مباني وآثار ولاية ملاكا، إلى أن خسروا سيطرتهم على تلك المنطقة في عام 1641 بعد الهزيمة الكبيرة التي تكبدها البرتغاليون أمام الأسطول الهولندي الذي فرض سيطرته على إندونيسيا ومعظم شبه الجزيرة الماليزية.
السيطرة الهولندية استمرت حتى القرن الثامن عشر وتحديداً حتى تاريخ سقوط ملاكا في يد البريطانيين بعد هزيمة هولندا أمام البريطانيين والفرنسيين في عام 1795، بعد أن تمكن الاستعمار البريطاني من فرض سيطرته على جزيرتي بينانج وسنغافورة منذ عام 1786، ورغم السيطرة الاستعمارية على المناطق الساحلية إلا أن مناطق الداخل في شبه الجزيرة الماليزية احتفظت بقدر كبير من الاستقلال حتى أواخر القرن التاسع عشر حين فرض الاستعمار البريطاني سيطرته الكاملة على معظم أراضي ماليزيا بعد معاهدة بانكور عام 1874 بين سلطان بيراك وبريطانيا، وتقرر بموجبها تثبيت حكم السلاطين الملاويين تحت الهيمنة البريطانية وتم تغيير اسم البلاد رسمياً إلى ملايا.
السيطرة البريطانية استمرت بقوة في ماليزيا حتى تمكنت اليابان إبان الحرب العالمية الثانية من اجتياح ماليزيا واحتلالها من عام 1941 حتى عام 1945 حيث انتهت فترة الاحتلال الياباني نتيجة الهزيمة الكبيرة التي تعرضت لها اليابان في الحرب، واستعادت بريطانيا كممثل لقوات الحلفاء سيطرتها على ماليزيا من جديد، لكن ذلك لم يكن ليستمر طويلاً مع تأجج روح الاستقلال بين أبناء البلاد.
التحرك نحو الاستقلال
التوجهات المتحررة وحركات الاستقلال في ماليزيا بدأت تتبلور أفكارها بشكل واضح مع بدايات القرن العشرين حيث طالبت باستقلال البلاد نهائياً وإنهاء أي هيمنة للاحتلال البريطاني، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها الماليزيون نحو الدفع ببريطانيا إلى دخول المفاوضات للاستقلال إلا أن ذلك لم يتحقق إلا بعد تراجع نفوذ بريطانيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتنامي الحركة القومية الملاوية بشكل كبير.

رئيس الوزراء الأول في تاريخ ماليزيا تنكو عبد الرحمن بوترا كان هو عراب الوفد الذي ضم أبرز القادة والسياسيين في ماليزيا والذي توجه إلى العاصمة البريطانية لندن لقيادة المفاوضات مع بريطانيا من أجل الاستقلال، وتوجت هذه المفاوضات بالنجاح في تاريخ 8 فبراير عام 1956 قبل أن يتم الإعلان الرسمي عن الاستقلال في تاريخ 31 أغسطس 1957 في ملعب “مرديكا” في العاصمة الماليزية كوالالمبور، حيث تحول هذا المكان اليوم إلى الساحة الأيقونية في العاصمة وهي ساحة الاستقلال.
بعد ذلك شهد عام 1963 انضمام ولايات شرق ماليزيا وهي صباح وسرواك إلى الاتحاد الماليزي في عام 1963، كما انضمت جزيرة سنغافورة إلى الاتحاد في نفس العام قبل أن تعلن انفصالها واستقلالها عن ماليزيا في عام 1965.
عام 1963 كان هو العام الذي توحدت فيه البلاد تحت اسم ماليزيا بعد انضمام اتحاد الملايو، وبورنيو الشمالية وسرواك، لتصبح ماليزيا مكونة من قسمين هما الشطر الشرقي الذي يضم ولايتي صباح وسرواك ومنطقة لابوان الفيدرالية، والشطر الغربي الذي يضم 11 ولاية إضافة إلى منطقتين فيدراليتين هما كوالالمبور العاصمة الفيدرالية للبلاد والعاصمة الإدراية بوتراجايا.
النهضة الماليزية
لم يمض على استقلال ماليزيا من الاحتلال سوى 61 عاماً، لكن ذلك لم يمنع البلاد والحكومات التي تعاقبت على حكمها من العمل بجهود هائلة لتطوير البلاد وانتشالها من الفقر والأوضاع السيئة التي خلفتها العقود الاستعمارية الطويلة.
خلال سنوات قليلة استطاعت ماليزيا تطوير نفسها والانتقال من مجتمع ودولة زراعية فقيرة إلى دولة صناعية متقدمة تمتلك كفاءات علمية وصناعية ومهنية في مختلف مجالات الحياة، والعهد الأول لرئيس الوزراء الماليزي الحالي مهاتير محمد كان له الدور الأكبر في التطور الذي تعيشه ماليزيا اليوم، حيث استمر عهد مهاتير الأول منذ عام 1981 حتى عام 2003 حين تنحى عن السلطة.
عهد مهاتير شهد ثورة اقتصادية هائلة في ماليزيا حيث حولها من دولة تعتمد على تصدير المنتجات الزراعية مثل المطاط وزيت النخيل إلى دولة صناعية ضخمة تسهم الصناعة فيها بـ 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بفضل سياساته الاقتصادية الناجحة وعمله على خصخصة العديد من المؤسسات الحكومية مثل شركات الطيران والاتصالات والخدمات، وهو ما ساهم بتحقيق نمو اقتصادي تجاوز 8% لمدة 8 سنوات متتالية ما بين 1988 و 1996 وأدى لزيادة كبيرة في دخل الفرد حيث تضاعف خلال 6 سنوات ما بين 1990 و1996 وتضاعف دخل الدولة بشكل كبير في البلاد.
كما شهدت البلاد مشاريع عمرانية ضخمة مثل برجي “بتروناس” التوأم وتأسيس شركة “بروتون” الماليزية لصناعة السيارات ومطار كوالالمبور الدولي ثم مشروع التوسيع وتأسيس مطار كوالالمبور الدولي الثاني، عدا عن تطوير شبكة الطرق والمواصلات بسرعة كبيرة وإنشاء مشروع العاصمة الإدارية بوتراجايا، ولا زالت البلاد حتى اليوم تتقدم نحو الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة عالية الدخل في العالم.
المجتمع المتحد متعدد الأعراق
ماليزيا تحتضن العديد من العرقيات والأديان ضمن دولة ومجتمع واحد، حيث يتكون المجتمع الماليزي من ثلاثة أعراق رئيسة هم: الملاويون، الصينيون والهنود، كما تضم ماليزيا العديد من الأقليات ذات الأصول اليابانية والإندونيسية والأوروبية وحتى العربية، إضافة إلى الأقليات الباقية من سكان الجزيرة الأصليين والذين يعرفون باسم “أورانج أسلي”.
لم تصل ماليزيا بعد الاستقلال فوراً إلى الوحدة والسلام المجتمعي الذي تتمتع به اليوم، بل مرت البلاد بفترات من التوتر العرقي الكبير الذي وصل إلى أوجه في عام 1969 عندما شهدت العاصمة كوالالمبور احتجاجات واشتباكات عرقية بين الملاويين والصينيين، كان منطلقها الأساسي الاحتجاج ضد الهيمنة الصينية على اقتصاد البلاد، وأدت تلك الاحتجاجات إلى مقتل المئات من الماليزيين من مختلف الأعراق وهو ما قرع أجراس الخطر ودفع بقادة البلاد إلى الوقوف بحزم ضد التفرق والعنف.
على مدى عقود منذ تلك الحادثة استطاعت ماليزيا وبفضل الوعي الذي عملت الحكومات على نشره من تجاوز النعرات العرقية والدينية المختلفة والوصول اليوم إلى مجتمع متنوع ومتسامح وبعيد عن العنصرية، مجتمع يشكل مزيجاً فريداً من الأعراق والأديان التي تعيش سوية تحت اسم وعلم ماليزيا.