غير مصنف

مهاتير محمد..طبيب فقير غيّر أمّة وبنى نهضة ماليزيا… تعرّفوا على مسيرة حياة رئيس الوزراء السابع

كوالالمبور – “أسواق”

لا يكاد يذكر اسم ماليزيا في عالمنا اليوم دون أن يرتبط بأسماء شخصيات تاريخية عظيمة شكلت ماضي وحاضر ولا زالت تشكل مستقبل هذا البلد، وفي رأس قائمة هذه الشخصيات يقف الدكتور تون مهاتير محمد الذي يعتبر عهده في قيادة ماليزيا المرحلة الأهم في تاريخ هذا البلد، وعودته الحاضرة إلى دور القيادة تسطر مرحلة ومستقبل جديد للبلاد التي واجهت مصاعب جمة بعد رحيله.

كل الإنجازات التي حققها مهاتير محمد ولا زال يعمل على تحقيقها لخدمة ماليزيا جعلت سيرته وحياته مثالاً يحتذى ويدرس في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً لدى الباحثين عن كيفية صناعة النهضة في الدول النامية وتحويلها إلى دول حديثة ضخمة الاقتصاد كما صنع مهاتير ببلده ماليزيا.

النشأة والبدايات

ولد الدكتور مهاتير محمد في 10 يوليو من عام 1925، في مدينة “ألور ستار” عاصمة ولاية قدح الماليزية، وينتمي مهاتير إلى عائلة مكافحة فقيرة حيث أن والده محمد اسكندر كان معلماً للغة الإنجليزية وواحداً من أوائل من قاموا بتدّريس هذه اللغة في مدينة “ألور ستار” فيما كانت والدته “وان تيمباوان” تملك أصول بعيدة تربطها بالعائلة الملكية في ولاية قدح، وهكذا عاش مهاتير سنواته الأولى في بيئة فقيرة كادحة حيث كان الأخ الأصغر لتسعة أبناء.

في بداية حياته أظهر مهاتير تفوقاً متميزاً في دراسته الابتدائية، حيث تفوق على جميع نظرائه في المدرسة وهو ما مكنه من الحصول على منحة لدراسة اللغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية نظراً لقدرته على التحدث بها بطلاقة، لكن الغزو الياباني لماليزيا في عام 1941 غير الكثير من طفولة مهاتير الأولى، حيث أغلقت مدرسته واضطر للعمل في بيع فطائر الموز وبعض المنتجات الأخرى ليساعد عائلته الفقيرة إلى أن انتهت مرحلة الغزو الياباني مع استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.

مهاتير عاد بعدها ليكمل دراسته ويبدأ مرحلة الدراسة الجامعية في كلية الملك إدوارد السابع في سنغافورة والتي تحولت اليوم إلى جامعة سنغافورة الوطنية، حيث نال شهادة الطب وبدأ العمل كطبيب لدى حكومة البلاد، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه “ألور ستار”، إذ ساهم كونه الطبيب الوحيد من عرق الملايو في المنطقة إضافة إلى أعماله الكثيرة ومساهماته في المجتمع المحلي في امتلاكه شعبية كبيرة بين أبناء مدينته، وهذا ما جدد الاهتمام القديم الذي لطالما استحوذ على عقل مهاتير وهو عالم السياسة.

السياسة: المعركة الأولى

اهتمام مهاتير محمد الكبير بالسياسة بدأ منذ مرحلة الدراسة الجامعية، إذ لم يكن مهاتير مجرد طالب جامعة اعتيادي بل كان أيضاً صحفياً يكتب في صحيفة “ستريتس تايمز” الشهيرة تحت اسم مستعار هو “سي إتش إي. ديت” ودعا في مقالاته أبناء قومية الملايو للمطالبة بحقوقهم في بلادهم كما دعا لجعل اللغة الملاوية اللغة الرسمية في البلاد.

أثناء عمله كطبيب في مدينة “ألور ستار” كان مهاتير ناشطاً ضمن حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو “أمنو” حيث امتلك نفوذاً كبيراً ضمن الحزب إلى أن أصبح المسؤول الرئيسي للحزب في ولاية قدح في انتخابات 1959، ورغم نفوذه الكبير وشعبيته بين سكان الولاية إلا أنّ مهاتير لم يترشح للانتخابات في ذلك العام، بسبب الخلاف الذي كان موجوداً بينه وبين رئيس الوزراء الماليزي تونكو عبد الرحمن الذي ينتمي لنفس الولاية التي ولد فيها مهاتير.

لكن الانتظار لم يدم طويلاً حيث أن السياسي الشاب قرر الترشح للانتخابات البرلمانية في عام 1964، حيث فاز بمقعد في البرلمان عن منطقة “كوتا ستار” التابعة لعاصمة ولاية قدح “ألور ستار” وهو ما زاد شهرة مهاتير محمد كثيراً كسياسي شاب من المنادين باستعادة حقوق أبناء الملايو، وانهمك مهاتير في فترته الأولى كنائب في البرلمان بقضية سنغافورة ومحاولاتها للاستقلال عن البلد الأم ماليزيا، حيث كان يوجه انتقادات لاذعة لحزب “الحركة الديمقراطية” متهماً إياه بالانحياز إلى الانفصاليين ذوي الأصول الصينية عوضاً عن بلدهم ماليزيا التي احتضنتهم، إلى أن خسر مهاتير مقعده الانتخابي في انتخابات عام 1969 لصالح مرشح الحزب الإسلامي الماليزي.

بعد خسارة مهاتير للانتخابات واجهت ماليزيا حدثاً مأساوياً يتمثل في أحداث العنف العرقي في يوليو 1969 والتي ذهب ضحيتها عشرات المواطنين من الأصول الملاوية والصينية نتيجة أعمال عنف نشبت بين الملاويين والصينيين، وهو ما دفع بمهاتير إلى الوقوف بحزم وتوجيه رسالة إلى رئيس الوزراء الماليزي تنكو عبد الرحمن دعاه فيها إلى الاستقالة نتيجة سوء إدارته للبلاد وتفضيله للمواطنين ذوي الأصول الصينية دون غيرهم، وسرعان ما انتشرت الرسالة إلى العامة مما أدى إلى فصل مهاتير محمد من حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو “أمنو” وذلك بتدبير من رئيس الوزراء حينها تنكو عبد الرحمن، الذي عمل على تقييد مهاتير سياسياً ومنعه من نشر آراءه الإصلاحية التي اعتبرها العديدون في الحزب دعوة للتمرد على الحكومة، لكن كل ذلك لم يكن سوى مرحلة تمهد لعودة مهاتير القوية إلى عالم السياسة مرة أخرى.

معضلة الملايو: مهاتير الرمز

عام 1970 وبعد التضييق السياسي الكبير الذي واجهه مهاتير أصدر كتابه الشهير “معضلة الملايو” الذي يعتبر من أكثر الكتب إلهاماً في تاريخ ماليزيا الحديث، حيث تحدث مهاتير في الكتاب عن الأوضاع التي يعيشها أبناء الملايو في بلدهم، متناولاً العديد من القضايا الحساسة آنذاك مثل الهيمنة الصينية على اقتصاد البلاد وتفضيل الحكومة للصينيين على أكثرية الملايو في البلاد، كما اتهم مهاتير أبناء جلدته من الملايو بالتقصير والرضا بالبقاء ضمن المجتمعات الزراعية الفقيرة دون العمل على تطوير أنفسهم لمواكبة وتحدي الهيمنة الصينية على بلادهم، وبحسب الكثير من المؤرخين فإن هذا الكتاب يعتبر نقطة لامعة في تاريخ قومية الملايو حيث كان دافعاً للكثيرين من أبنائها للتوجه نحو العلم والصناعة وتطوير بلادهم بالشكل المطلوب لمواجهة الهيمنة الاقتصادية التي كانت تتعرض لها.

لكن الحكومة الماليزية في ذلك الوقت قامت بحظر الكتاب من الانتشار في البلاد، واعتبر الكثيرون آراء مهاتير محمد متمردة وداعية للفوضى، لكن الأمور تغيرت بعد سقوط حكومة تنكو عبد الرحمن بعد استقالته في نفس العام 1970 والتي يرجعها الكثيرون إلى انتشار آراء مهاتير الثورية بين أبناء الملايو.

رئيس الوزراء الذي تلى تنكو عبد الرحمن كان عبد الرزاق حسين، والذي دعا مهاتير محمد إلى العودة لميدان السياسة من خلال تعيينه في مجلس الشيوخ عام 1973، كما عاد مهاتير للمجلس الاستشاري الأعلى لحزب “أمنو” في نفس العام، قبل أن تتكلل عودته المظفرة من خلال تعيينه وزيراً للتعليم في عام 1974، حيث كانت شعبية مهاتير محمد في ماليزيا مستمرة بالتصاعد إذ تحول إلى رمز للسياسي الناجح والمناضل خصوصاً بفضل صراعه مع رئيس الوزراء الأسبق تنكو عبد الرحمن.

عام 1978 وصولاً إلى عام 1981 كانت فترة استلام مهاتير محمد لمنصب نائب رئيس الوزراء حسين أون ومهام وزير الصناعة في ماليزيا، واعتمد أثناء عمله في تلك الفترة سياسة “الصناعات الثقيلة” حيث بدأ بتوجيه اقتصاد البلاد نحو استراتيجية طويلة الأمد لتطوير الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات، لكن رغم ذلك فإن العديد من سياسات مهاتير التطويرية اصطدمت بحذر وتحفظ كبير من رئيس الوزراء لكن تنحي أون عن السلطة في عام 1981 نظراً لظروفه الصحية غيّر كل شيء بالنسبة لمهاتير وماليزيا!

مهاتير: رئيس الوزراء الرابع

بعمر السادسة والخمسين أصبح مهاتير محمد رابع رئيس للوزراء في تاريخ ماليزيا بعد الاستقلال، وأول رئيس وزراء في تاريخ البلاد لا ينتمي إلى أحد العائلات الملكية في البلاد، وهو ما منحه لقب “ابن الشعب” حيث استمرت فترة حكمه كرئيس للوزراء 22 عاماً، سطر خلالها مهاتير ثورة اقتصادية وفكرية ضخمة في ماليزيا حولتها من دولة نامية إلى واحدة من الدول المتقدمة ذات الثقل الكبير في آسيا والعالم ككل.

الفوز في انتخابات 1982 كرّس الشعبية الكبيرة لمهاتير محمد في البلاد، وهو ما شجعه في صراعه الكبير لتقييد السلطات الملكية في البلاد وضم سلطات أكبر لصالح النظام الديمقراطي المتمثل في البرلمان ورئيس الوزراء، وهو ما استطاع مهاتير تحقيقه بين عامي 1983 – 1991.

من بين أبرز التغييرات التي أنجزها مهاتير في النظام الدستوري للبلاد كان رفع الحصانة عن أفراد العائلة المالكة حيث كانوا يملكون حصانة سيادية تمنع السلطة القضائية من معاقبتهم في حال مخالفة القانون، كما ألغى “الفيتو” الملكي والذي كان يمنح الملك حق نقض أي مشروع قرار يمرره البرلمان عبر رئيس الوزراء، إذ كانت موافقة الملك شرطاً أساسياً لتمرير أي قرار، لكن التعديل الذي أنجزه مهاتير جعل موافقة البرلمان تعادل الموافقة الملكية بعد 30 يوماً من مشروع القرار دون انتظار موافقة الملك عليه.

عهد مهاتير شهد ثورة اقتصادية هائلة في ماليزيا حيث حولها من دولة تعتمد على تصدير المنتجات الزراعية مثل المطاط وزيت النخيل إلى دولة صناعية ضخمة تسهم الصناعة فيها بـ 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بفضل سياساته الاقتصادية الناجحة وعمله على خصخصة العديد من المؤسسات الحكومية مثل شركات الطيران والاتصالات والخدمات، وهو ما ساهم بتحقيق نمو اقتصادي تجاوز 8% لمدة 8 سنوات متتالية ما بين 1988 و 1996 وأدى لزيادة كبيرة في دخل الفرد حيث تضاعف خلال 6 سنوات ما بين 1990 و1996 وتضاعف دخل الدولة بشكل كبير في البلاد.

النقطة الأبرز في مسيرة مهاتير كانت الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عصفت بدول جنوب شرق آسيا في أواخر فترة التسعينيات، حيث واجه الاقتصاد الماليزي أزمة ضخمة كادت تسبب انهياره، لكن مهاتير وقف وقفة تاريخية برفضه اقتراحات صندوق النقد الدولي لإنقاذ الاقتصاد واعتماده سياسته الخاصة التي أثبتت نجاحها في إنقاذ البلاد وإعادتها لسكة النمو الاقتصادي.

كما شهد عهد مهاتير مشاريع كبيرة في مجال البنية التحتية مثل تطوير مطار كوالالمبور الدولي وتحويله إلى واحد من المطارات الضخمة في جنوب شرق آسيا، إضافة للطريق السريع الذي يصل شمال ماليزيا بجنوبها من حدود تايلاند إلى حدود سنغافورة، كما كان صاحب الفضل في بناء برجي بتروناس التوأم اللذان يعتبران رمزاً للعاصمة كوالالمبور وماليزيا، وشهد عهده أعمالاً تطويرية ضخمة في شبكات الطرق والكهرباء والاتصالات ومختلف المجالات، إلى أن اختتم عهده كرئيس للوزراء في عام 2003 بتقاعده بعمر 78 عاماً واستلام عبد الله بدوي لمنصب رئيس الوزراء.

انتخابات 2018 والعودة المظفرة

ابتعاد مهاتير محمد عن ميدان السياسة مهد الطريق لوصول نجيب عبد الرزاق إلى منصب رئيس الوزراء في ماليزيا في عام 2009، وهو الرجل الذي كان يحظى بثقة كبيرة من مهاتير منذ أواخر عهد كرئيس للوزراء، لكن عهد عبد الرزاق شهد العديد من القضايا المثيرة للجدل ولعل أبرزها قضية شركة 1MDB التي واجه نجيب بسببها تهماً باختلاس مبالغ ضخمة تصل إلى مئات الملايين، إضافة إلى تراجع الوضع المعيشي والاقتصادي في البلاد، وهو ما أوصل ماليزيا مع اقتراب انتخابات العام الحالي 2018 إلى وضع متأجج يستدعي تدخلاً عاجلاً ممن يهتمون لمصالح هذا البلد وهنا كان مهاتير محمد في الموعد من جديد!

بعمر 92 عاماً أعلن مهاتير محمد عودته من جديد لميدان السياسة من خلال ترشحه للانتخابات كعضو في تحالف المعارضة الماليزية المعروف باسم “تحالف الأمل” حيث دعا إلى استعادة أمجاد ماليزيا واحترامها وقوتها الاقتصادية السابقة، وكان وقوفه إلى جانب المعارضة نقطة مفصلية ساهمت في تحقيقها لانتصار تاريخي في الانتخابات البرلمانية بحصولها على أغلبية 113 مقعداً من أصل 222 في البرلمان، وإزاحة الجبهة الوطنية الحاكمة عن السلطة لأول مرة منذ أكثر من 60 عاماً.

وعاد مهاتير محمد بعمر 92 عاماً ليكون أكبر رئيس وزراء في العالم، وأول ماليزي يشغل منصب رئيس الوزراء لمرتين كرابع وسابع رئيس للوزراء، ليتسلم السلطة بإذن شعبي وتأييد كبير ممتزج بثقة بقدرته الكبيرة على إعادة ماليزيا نحو سكة النمو والتطور والتقدم، حيث أعلن عن سياسة “100 يوم” الأولى من انتخابه والتي سيحقق فيها العديد من الإصلاحات الاقتصادية، حيث كانت باكورتها إلغاء ضريبة السلع والخدمات “GST” وإقالة العديد من المسؤولين الفاسدين وإجراء العديد من الإصلاحات الحكومية والإدارية في الدولة.

المسيرة الطويلة في عالم السياسة والتي لا زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، تؤكد شيئاً واحداً وهو الحب الكبير الذي يملكه مهاتير محمد لبلده ماليزيا، وهو ما يتلخص في الشعبية الهائلة التي يملكها في بلده إضافة للدول العربية والإسلامية، حيث أن مهاتير محمد لا زال اليوم في نظر الكثيرين أسطورة حية تتمثل في طبيب بسيط من عائلة فقيرة استطاع أن يغير مصير أمة من خلال العمل الدؤوب والالتزام بقضية شعبه نحو التطور والرقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WhatsApp chat